لنْ أكُون نُسخةً مِنْ أبي..

مدونات المغرب الدولي

لنْ أكُون نُسخةً مِنْ أبي..

” ألف مبروك، سترزقان بولد”، هكذا أخبرني الطبيب عن جنس الجنين مطمئنا إياي عن صحته، أستطيع أن أجزم أنني كنت لحظتها أسعد شخص في الكون، كنتُ أشاهد تحركاته وأسمع دقات قلبه بدهشة منقطعة النظير، كان احساسا يصعب على الكلمات أن تترجمه، أن يكون لك ابن، معناه أن تخرج قطعة منك تحمل جيناتك وملامحك ونبضك إلى الوجود، أن يكون لك ابن، معنى ذلك أن يأتي إلى الوجود أجمل ما ملكت يوما، وأثمن ما ظننته يوما ثمينا. كان قلبي لحظتها دافئا، يحمل حبّاً جديدا لن يهيئ مهما حاولت أن أصفه، كنتُ كطفل متحمس حماسا مبهرا لتجربة شيء أمامه، أحصي عدد الأسابيع التي تفصلني عن احتضان صغيري، احساس جميل أشبه بدفئ لطيف يتسلل إلى أطرافك لا تملك إلا أن تستسلم له وتستكين، كأنه معجزة حباك الله بها دون غيرك، كأنه كنز لا يُشترى ولا يُساوم، ولا يقدر بثروات العالم، سعادة خالصة يضعها الله في أقدار المحظوظين في أن يكونوا آباءً، فهل أستحق هذا الحظ كلّه ؟! هل أستطيع أن أكون لابني تماما كما يريدني أن أكون ؟! هل بإمكاني أن أجعل حياته مُتّزنة، وأقل ضغطا على روحه ؟!

كانت ليلتها أشبهَ بكابوس مُرعبٍ مازلتُ أعاني تبعاته إلى اليوم، مازلتُ أتذكر تفاصيلها المملة بكثير من الألم والتخبط بشكل يُرهقُ نفسيّتي وكَياني، كانَ سبب الجدال تافها ككل مرّة، لكن ردة فعلي لم تكن باردة ككلّ المرات، أخبرته صارخا بكل ما راكمته في قلبي لسنين طوال، ولم أستطع يوماً أن أجهر به في وجهه، أخبرتهُ كم تعبت من قسوته وصراخه الدائمين وانتهاره الذي لا ينقطع، أخبرتهُ كم تعبت من تقزيمه لشخصي، ومن سبابه وتقبيحه وغضبه على الدّوام من أشياء تافهة وكأنني ارتكبتُ جرما عظيما في حقه وفي حق الحياة، أخبرته أنني تعبتُ كثيرا وما عاد في قلبي مُتّسع لتحمّل المزيد، وما عدتُ أستطيع أن أعيش التّعاسة مُبتسماً، فحضن الأبوّة الذي من المفترض أن يطوقني، هو نفسه الذي تركني عالقا في شباك الوحدة والألم، أخبرته أيضا أنني كرهتُ بسببه الحياة، وكرهتُ هذا البيت الذي لولاها دموع أمّي، لغادرته منذ زمن بحثا عن راحة البال.

 لم تكن علاقتي بوالدي يطبعها الودّ والسّكون، اللهمّ بضع لحظات من الهدوء قصيرة العُمر، كنا ننعم بها من حين لآخر، ثم سُرعان ما نعود مجددا إلى أسابيع وشهور من الجحود والتقبيح والصّراخ ورتابة الأيام، لسبب أو بدونه. كان الصّراخ، اللغة الوحيدة التي يجيد، والسلاح الأوحد الذي يملكه ويستمتع بإشهاره في وجهي ووجوه كل من في البيت، أما أنا، فكان صُراخه الكابوس المزعج الذي خطف مني أجمل أيام طفولتي وشبابي. كان يغضب لأبسط الأشياء وأتفهها على الاطلاق، ان قلتُ أتفهها، فهي كذلك حرفيا، كأن تُغير مكان وضع أثاث معين، أو أن تكسر كأسا مثلا، أو أن تنسى اطفاء نور غرفتك قبل النوم، أو أن تتأخر قليلا عن العودة إلى المنزل قبل الوقت المحدّد، فيُقيم الدّنيا ولا يُقعدها، لأيام وأسابيع، بذات الصراخ، وذات التجهّم، وذات العتاب، إلى حدّ الملل، إلى حدّ الانهيار..

كان صُراخ أبي فظيعا بشكل لن تُصوره الكلمات مهما حاولت تفسيره، وقد نجح في أن يصنع داخلي، طفلاً هشّا خائفا مُتأهبا، يخشى أيّ شيء حوله، ويتصوره وحشاً كاسراً حتّى وأنا رجلٌ في عقديَ الثالث والنصف من العمر، منذ طفولتي يسكنني خوف غير طبيعي يلزمني في يقظتي وفي منامي، حتى في اللحظات الأكثر هدوءً؛ كان صوت أبي يوقظني من النّوم مفزوعاً، أستيقظ لأستوعب أنه كان مجرّد كابوس. كانت الأبوة في قاموس والدي، تتمثل في توفير الأكل والملبس والمشرب، ولوازم الدّراسة والعلاج؛ لم يكن يعنيه يوما أن يسألني عن دراستي أو أحلامي أو طموحي، أو حتى صراعاتي وما تُخلفه قسوته من ثقوب في قلبي، كانت هذه التفاصيل غير مهمة في نظره، وكانت، أهمّ شيء وكلّ شيء في نظري. في خضم هذا كله، كانت أمّي البلسم الذي يُحاول أن يملأ ثقوب القلب، كانت أشبه بالمطر بعد الجفاف، بالدفئ بعد البرد، بالحب بعد الفقد، بالأمان بعد الخوف، بالارتواء بعد الظمأ، بالسكينة بعد الوجع، كانت أمّي، المربية والرفيقة والصّديقة والمرشدة وملاذ الآمن، ومُطفِئة أحزاننا.

كان تعامل أمّي مُختلفا كلّيا عن تعامل أبي، حتى ترسّخ لديّ اعتقاد بأنّ الأمومة مُرادف للعطف و الحنوّ، بينما الأبوّة مُرادف للجفاء والبُرود، تَبيّن لي بعد فترة، أن اعتقادي كان خاطئا، أو على الأقل، تعميمي لم يكن على صواب. لا أستطيع أن أنكرَ أنني كنتُ أغارُ حدَّ الخجل من أصدقائي أو أبناء عمومتي، أو حتى أبناء الجيران؛ كنتُ أرمق حُسْنَ علاقتهم بآبائهم مِنْ كثب، فأتوجّع في صمت، كانت علاقة صداقة أكثر منها أبُوّة؛ ضَحكٌ، ولعبٌ، و مُزاحٌ، وصُحبة دافئة، كان قلبي يتمزقُ لها تمزيقاً.        لطالما تمنّيتُ في قرارة نفسي أن أكون لبرهة مكانهم، كان سيُسعدني أن ألعب مع أبي، أن أشاكسه ويُشاكسني، أن أقول له نكتة تافهة فنضحكُ عليها سويّا، أن نشاهد مباراة القدم، فنتراهن على من سيفوز، كان سَيُسعدني أن نرتاد المقهى سويّة؛ فأحدثه عن يومي، وعن حلمي، كان سيُسعدني أن أعانقه وقتما أريد، دون خجل أو قيْد، وأن أخبره كم أنني أحبّه وكم هو مهمّ بالنّسبة لي، لكن لسوء حظي لم أستطع أن أكون يوماً مثلهم، فقد أحكم والدي تشييدَ جدارٍ سميك وعالٍ بيننا، لم أستطع تخطّيه أبداً.

أتدري ما الوجع؟! أن يكون والدك جنبك ولا تستطيع أن تعانقه وتقبّله، إنه لشعور مُدمّر على الاطلاق! لم يحضنني يوماً، لم يربت على كتفي في لحظات اخفاقي أو نجاحي، لم يعرف عن حياتي شيئا؛ لم يكن على علم بالأسابيع التي كنت أتغيب فيها عن الدّراسة، لم يكلّف نفسه عناء السّؤال، حتّى في اللّحظات التي كنتُ فيها أكثر ضُعفا وعلى مَقربة من الهلاك؛ لم يكن يعلم  عنّي شيئاً، عندما سألتني الطّبيبة في حصّة للعلاج النفسي عن حلمي، أخبرتها أن أعانق أبي وأبكي طويلا في حُضنه إلى أن يجفّ دمعي، ويتعافى قلبي؛ كان هذا حلم الطّفل المجروح داخلي، انفجرتُ بعدها باكيا كما لم أبكي يوماً، كان مشهدا مُخجلاً، خُدش فيه كبرياء رجولتي أمام امرأة.. !

 كنتُ مُراهقا عندما بدأت التّدخين، كان يتهمني باستمرار أنني أدخن، رُغم أنني لم أحمل سيجارة قبل ذلك اليوم، كان كثير الشّك حدّ الجنون، يومها طردني من البيت مُتهما إياي بأشياء لم تحدث سوى في خياله، غادرت، وقررت أن أقطع كلّ شكوكه وتبريراتي باليقين، دخّنت ليلتها حتى شعرتُ بضيق في التنفس، بقيتُ بعدها مسهدا حتى الصّباح، كنت بائسا، لكنني شعرت بالانتصار، وكأنني كنتُ أنتقم لصدقي من شكوكه التي لا تنتهي، لم أكن أعلم أنني كنت حينها أنتقم من نفسي ومن ما تبقى من عمري.. دفعتُ بعده الثمن غاليا..  

مرّت السّنين سراعا كالنيازك، وأنا الآن، على أبواب أن أصبح أبا لطفل صغير، لن أكون بلا أخطاء يا ولدي، فأنا في نهاية الأمر مُجرّد إنسانٍ يخطئ ويُصيب.. يقولون أنّ الأب هو من يصنع ذكورة ابنه ورجولته، ويُساعده على استيعاب وظيفته ودوره في الحياة، عن طريق الاحتكاك والمُحاكاة، أعدك يا بُني أن أعلمك من أخطائي، وأنبتك نباتاً سويا، وأكون لك الحضن الذي يحتويك، والظهر الذي يسندك، واليد التي تنتشل عنك الثقل، أعدك أن أتعافى.. من أجلك.. من أجلي.. ومن أجل أن يغفر قلبي لوالدي.. أعدك أن أبدأ من جديد، وأشمّر لمصافحة الحياة..

مريم جوباي                     


Tags: نُسخةً
Share: