أمينة رئيف: : بداية، كنت أستاذا لمادة الفلسفة في المغرب ثم هاجرت إلى كندا ،روسيا وبالتالي ألمانيا .حدثنا عن هذه التجربة، متى وكيف؟
محمد نبيل : درست الفلسفة بجامعة محمد بن عبدالله بفاس وقبل التخرج، أي عند نهاية التسعينات التحقت بالمدرسة العليا للأساتذة، وبعدها تخرجت أستاذ للفلسفة في المرحلة الثانوية. بعد سنوات قليلة في مجال التدريس، قررت تطليق تدريس الفلسفة بالثلاث ثم قررت الهجرة والتخلي عن كل شيء ؛ فشروط تدريس الفلسفة مثلها مثل شروط المنظومة التعليمية، وهي شروط مجحفة جدا ، ولا تحفز على الابداع و العطاء، إضافة إلى أن أحلامي العلمية في الدراسة والبحث والتحاقي بجامعات دولية ،و اطلاعي على نظريات و مناهج و آفاق مغايرة
لقد طلقت تدريس الفلسفة ولم أطلق الفلسفة طبعا ، فأنا أواكب الابداع في مجال الانتاج الفلسفي ، ولدي قراءاتي وطقوسي اليومية في هذا المجال. كانت هجرتي إلى كندا من أجل دراسة الصحافة والعلوم السياسية ، كما درست الفن السابع” في جامعة مونتريال. وقمت بإنجاز عملي السينمائي الأول “فيلسوف” وهو أول فيلم قصير أنتجته رفقة مجموعة من الطلبة في شعبة السينما في الجامعة
تجربة الهجرة في كندا هي تجربة قيمة من الناحية العلمية والشخصية ؛ لأن بناء الذات والسفر والترحال بشكل عام يمنح الإنسان مسافة نقدية إزاء الثقافة التي تربى فيها . هذا الهاجس الفلسفي زاد عندما عندي عندما التحقت بجامعة لافال العظيمة .اشتغلت في مجال الإعلام و الصحافة المكتوبة والتلفزيون والإذاعة، واكتسبت مجموعة من المهارات والتجارب. وبالفعل كانت التجربة الكندية تجربة رائعة من الناحية العلمية والمهنية ؛ بالرغم من كل المطبات و العوائق، أي عائق كل مغترب : الطقس البارد ، التمييز ، الثقافة الجديدة ، العقلية المغايرة . لا يمكن الحديث عن الغرب المتقدم وكأنه مملكة مفروشة بالورود ؛ فتجربة الهجرة والاغتراب هي تجربة مريرة ، لكني لا أرى الاشياء إلا من خلال هاته المتناقضات. اكتسبت الكثير من التجارب في هذه الرحلة الكندية، وبعد ذلك التحقت بألمانيا قبل الهجرة مجددا إلى روسيا
مغادرة الوطن لم تكن سهلة . طلب المغادرة و الدراسة في الخارج لم يكن سهلا . رفض طلبي مرات عدة ، ورغم ذلك كنت مصرا على مغادرة البلاد من أجل الدراسة في المجال الذي طالما مارسته عن حب و شغف : الصحافة . كنت أريد دراسة علم الصحافة و الاعلام دراسة علمية، وهو ما تحقق نسبيا . الهجرة كانت بطريقة قانونية، اجتزت بنجاح اختبار كنديا لاختيار الكفاءات المهاجرة
التجربة الكندية خدمتني رغم كل العوائق. اكتشفت في كندا عالم البحث العلمي والمعرفة ومنهجية القراءة والبحث بشكل مغاير. وفعلا هناك فرق شاسع بين المنظومة العلمية والبحثية في المغرب والمنظومة الموجودة في كندا. هي تجربة في حد ذاتها انفتاح على ثقافات أخرى. عايشت جل الثقافات سواء كانت آسيوية، أوروبية، أو أمريكية أو كندية ، ما سمح لي بأن تكون لي رؤية شمولية حول بعض القضايا وأنا أمارس النقد المزدوج، بمعنى نقد ثقافة الغير ونقذ ثقافة الذات وهذا شيء أساسي
أمينة رئيف: “أحلام نساء” هو فيلم وثائقي يحكي عن تجربة ألمانيات اعتنقن الإسلام ، “جواهر الحزن” يحكي عن واقع الأمهات العازبات و“صمت الزنازين” يحكي عن تجربة نساء سجينات، هل يمكن القول أن المخرج المغربي “محمد نبيل” يدافع عن قضية المرأة بشكل عام وينقل هموم المرأة بحس فني وجمالي؟
محمد نبيل : أنتجت أول فيلم وثائقي عن المرأة ، ولدي ثلاث تجارب مهمة ، الحلقة الأولى و الثانية من الثلاثية السينمائية حول المرأة في المغرب كذلك. نعم أحاول أن أنقل هموم المرأة إلى الشاشة بحس فني وجمالي ، وعندما أقول هذا ، معناه أنني أنقل وجهة نظر المخرج وكيف يرى الواقع، ووجهة نظره الجمالية ، أي كيف يعالج السينما الوثائقية بشكل جمالي
وموضوع السؤال النسائي هو سؤال صعب وأطرحه باستمرار. هناك أسباب ذاتية اختزلها في علاقتي بجدتي وعمتي والعائلة. لقد ترعرعت في بيت نسائي ، إضافة إلى التجربة الموضوعية ، و أعني البحث العلمي في الجامعة المغربية والكندية حول نفس الموضوع . أضيف الى ذلك موضوع الجنس و الجنسانية الذي كنت قد بدأت البحث فيه في الجامعة المغربية بعد حصولي على شهادة الإجازة في الفلسفة ، تخصص علم الاجتماع. إذن فالحس الفني والجمالي في السينما حاضر وهو حضور ضروري في السينما بالنسبة لي ، لأن الفن السابع هو فن و إبداع، هو تعبير بالصورة والصورة فن وابداع وجمال
والسؤال النسائي أرى من خلاله كل الأوضاع التي يعاني منها المجتمع . لذلك فالمرأة المغربية في أفلام “جواهر الحزن” و“صمت الزنازين” أحكي عنها من خلال الأم العازبة و المرأة السجينة. أرى من خلال موضوع المرأة الثقافة المغربية ، والكثير من الجوانب. لذلك فموضوع المرأة ليس حبيس موضوع المرأة فقط ، أو سؤال المرأة. الحديث عن المرأة هو حديث عن كل المجالات المجتمعية لكن بطريقة معينة. والتركيز على المرأة في الفيلم هو أساسي، و انظر من خلاله إلى الوجه القبيح و الجميل للمجتمع الذي اشتغل عليه
أمينة رئيف: قلت إن الافلام التسجيلية أو الوثائقية لا تختلف عن السينما الروائية علما أن هاته الأخيرة تعتمد على الخيال أكثر من الواقع ، ما هو تعليقك؟
محمد نبيل : أكيد، ليس هناك جدار أو فصل بين السينما الروائية التي يقال عنها متخيلة والسينما التسجيلية التي يقال عنها واقعية. هناك العناصر المتخيلة و الواقعية الموجودة في الفيلم الروائي ، وهناك العناصر المتخيلة والعناصر الروائية الموجودة في الفيلم التسجيلي أو الوثائقي. لذلك فالفيلم التسجيلي أو الوثائقي والفيلم الروائي، يضمان معا مجموعة من العناصر المتخيلة . مثلا في “صمت الزنازين” أو “جواهر الحزن” هناك صناعة إبداعية، أي الموسيقى، الطرب والغناء ؛ أي كل العناصر المتخيلة. لأن هناك إبداع متخيل ، وفيها كذلك عناصر الواقع، كالقصة أو البناء الدرامي . في هذا السياق، لا أومن بهذا الفرق الموجود بين السينما الواقعية والتسجيلية . اشتغل على السينما التسجيلية ، مثل اشتغالي على السينما الروائية. هناك بعض القواعد التي تختلف بين النوعين ، يعني أماكن التصوير والإعداد وهذه أمور تقنية وإجراءات تختلف بين الفيلم الروائي والفيلم التسجيلي ، بينما على مستوى البناء والإنتاج، و من الناحية الخلفية والمعرفية والإبداعية والفنية والجمالية ليس هناك اختلاف بينهما
من الصعب أن نقول : إن السينما الروائية تعتمد على الخيال أكثر من الواقع . هذا التمييز صعب. كل فيلم سواء كان وثائقيا تسجيليا أو روائيا، فهو يحتضن عناصر من الخيال ومن الواقع . إلى أي حد يحضر الخيال والواقع ، فهذا يختلف من مخرج الى آخر ، لأن كل مخرج له قناعاته وله تصور وله رؤية وخلفيات ، وانتماءات الى مجتمع
المخرج يجب أن يكون ناقدا ومنتقدا ، فالنقد هو أساس تطور المجتمعات. والنقد على المستوى الفني و الابداعي هو الذي يقدم لنا شخصية واعية وقادرة على بناء الوطن.
أمينة رئيف: ما هي أصداء أفلامك في المهرجانات التي شاركت بها؟ والجوائز التي حصلت عليها؟
محمد نبيل: أفلامي عندما أقوم بعرضها أمام الجمهور، سواء في مهرجانات أو لقاءات جمعوية في المغرب أو في أوروبا وفي دول عديدة ، ينتابني دائما إحساس بالفرح والمتعة بالرغم من كل الانتقادات التي يمكن أن توجه لأفلامي. فالجمهور هو مختبر ، أي من خلاله يمكن أن يتعرف المخرج على عمله ، ومن خلاله يقوم بتأسيس عمل سينمائي جديد وإعادة النظر في بعض تصوراته ، من أجل بناء شيء جديد والاستفادة من هذه الملاحظات في أعمال سينمائية مستقبلية.
“صمت الزنازين” و “جواهر الحزن” حاز على الكثير من الجوائز ، إذ عرضته القناة البريطانية “بي بي سي” وخلق جدلا في المغرب ، لأن الموضوع صادم. وكانت هناك قرصنة لجزء من هدا الفيلم على قناة الانترنيت يوتوب. “صمت الزنازين” تم عرضه في فرنسا ، ومؤخرا في مدينتي فايمر ودوسلدوف الألمانيتين
أمينة رئيف: حدثنا عن شعورك ابان هدا العرض في بلاد المهجر؟ وعن تفاعل الجمهور؟
محمد نبيل : عند عرض فيلم “صمت الزنازين” ، فوجئت بتفاعل المجتمع الألماني والمجتمع المغربي القاطن بألمانيا . طرحت أسئلة كثيرة. استحضر امرأة قدمت لي فكرة مفادها أن هناك حكاية داخل الفيلم وحكاية خارج الفيلم، وهذا في حد ذاته متعة كبيرة وإطلالة على المغرب، وعلى المرأة المغربية داخل السجون. ومن خلال النقاش الحميمي في دوسلدورف ، هناك من ركز على المرأة المغربية، و هناك من قدم مقارنة بين المغرب والمانيا، بينما البعض ركز على المغرب وعلى وضعية المرأة
يتفق الجميع أن وضعية المرأة في المغرب هي وضعية هشة. تفشي ظاهرة الأمية في صفوف النساء أكثر من الرجال، والمرأة لازالت غائبة أو مغيبة في المجتمع ، وهي لا تساهم في عملية الإنتاج بالشكل المطلوب ، لأن مساهمتها هي أقل بكثير من مساهمة الرجل. الفيلم يتطرق إلى كيف تحكي المرأة عن حالها النفسي والفكري والمعرفي وعلى مستوى المشاعر والأحاسيس داخل السجن. المرأة خرجت من سجن المجتمع ، مطوقة بمجموعة من الثقافات العتيقة و الأفكار والأحكام القبلية، وبالنظرة الاحتقارية والتمييزية ، فهي تدخل سجنا آخر مضاعف، وهو مكان وراء القضبان
الحديث عن المرأة مع الجمهور الألماني ، كان حديثا ممتعا ، فالقصة مريرة وحزينة جدا مثل قصة “جواهر الحزن” التي أقدم فيها حكاية حزينة ، لكني اقدمها على طبق جميل ، و أعني هنا ، البناء الدرامي والعملية الاخراجية في السينما والصوت والموسيقى.. فطريقة الحكي هي لغة الإبداع والجمال والفن في السينما. الجماليات في السينما هي ارتقاء بالذوق المجتمعي إلى مستوى أفضل ، وهي تربية على تهذيب النفوس. والفنون تقوم عموما بعملية ارتقاء وتعالي للفكر والمعرفة والأذواق
في مدينة دوسلدورف كانت القاعة ممتلئة عن آخرها . تفاعل الجمهور بشكل كبير ، والكل تابع الفيلم حتى نهايته وأثناء المناقشة. في رأيي، المخرج يتعلم من الجمهور. هناك استفادة من الملاحظات و الانتقادات . والنقد السينمائي كتخصص يجب أن يكون له المكانة الأساسية الكبرى في المجتمعات العربية ، من أجل بناء رواية وسينما وفن وإبداع ، لأن كل هذه المجالات الإبداعية عندما لا يواكبها النقد بمعاجمه ومعارفه وبخلفياته لا يمكن أن تؤسس لإبداع متين وأصيل ، والإبداع الأصيل لا يمكن أن يكون بعيدا عن النقد، والنقد أساسي جدا في لغة الفن السابع
أمينة رئيف: لغة الصمت سائدة في فيلم “صمت الزنازين” حيث أنك ترتكز على دلالة الصورة أي “كيف نعبر في صمت” ، حدثنا عن تناغم الصورة و الصمت؟
محمد نبيل : هناك لغة الصمت ولغة الصورة . اللغة المادية حاضرة ، لكن حضورها غير ضروري ، في كل فيلم. في “صمت الزنازين” هناك صمت حاضر داخل الشريط ، تؤدي فيه الصورة الدلالة الحقيقية والواقعية و البلاغية ، وكذالك الدلالة الفلسفية العميقة وهي تعبر عن هذا الواقع السجني وواقع النساء خلف القضبان
علاقة الصورة بالصمت هي علاقة جدلية ، فالصورة تقدم لنا دلالة الصمت. فنحن نحكي عن قضية أو سؤال بالصورة لكن الصورة في الرواية ليست هي الصورة في السينما. كل مجال له معاييره و قواعده وضوابط معينة . من يمارس السينما ينبغي أن يضطلع على الصورة الفوتوغرافية مثلا لأنها جزء لا يتجزأ من الفن السابع . تطورات العمل السينمائي والسينما كفن وكصناعة لا يمكن أن يفصل عن سياق الصورة الفوتوغرافية ، والصورة الفوتوغرافية لا يمكنها أن تفصل عن تاريخ الصورة عند الإنسان منذ غابر الثقافات والحضارات.
أتمنى أن أكون قد توفقت في إعداد عمل جماعي مع فريق قام بإنتاج الفيلم واخرجه بإخراجه إلى الوجود. أتمنى أن نكون كفريق قد توفقنا في التعبير عن واقع المرأة في السجون المغربية بلغة سينمائية فنية وجمالية ترقى إلى السينما التسجيلية الأصيلة والعميقة والصادقة.
أمينة رئيف: ما هو الجديد على الساحة الفنية؟
محمد نبيل : كل مشروع سينمائي يبدأ بحلم جديد و الحلم أكبر من المخرج وهذا شيء أساسي. أريد أن أختم هده الثلاثية السينمائية المغربية عن المرأة في المغرب. وأنا اشتغل على موضوع المرأة و الاستعباد أو الاستغلال. أبحث عن مصادر التمويل من أجل إنتاجه العام المقبل. هناك بحث في مشروع لفيلمين قصيرين عن المرأة في المغرب و المانيا . أنا في عملية البحث / مرحلة ما قبل الانتاج. أتمنى أن أوفق في انتاجهما بدعم من مؤسسات سينمائية وبتعاون مع سينمائيين في ألمانيا وفي المغرب، لأن السينما عمل جماعي.
السينما تسمح لنا بالغوص في عالم المتناقضات. والفن السابع هو مجال للإبداع والتعبير عن الذات وعن الغير ، وهو كذلك أداة تربوية وبيداغوجية ، و وسيلة للتغيير المجتمعي الثقافي والفكري. إن الثقافة هي الرهان الحقيقي لتغيير هذه المجتمعات العربية بشكل عام ، لأنه لا يمكن لنا تغيير المجتمعات إلا بالثقافة والفكر والمعرفة والعلوم، وليس بالسياسة والشعارات . السياسة فشلت في عالمنا العربي . والفن السابع يستطيع إلى جانب مجالات أخرى أن يلعب دور الرافعة المجتمعية .